الفنانة نهلة آسيا، من مواليد فلسطين ـ طولكرم عام 1966، حائزة على دبلوم فنون جميلة من مركز الدرّة للفنون الجميلة في الأردن، عضو رابطة الكتّاب الأردنيين والاتحاد العام للكتّاب والأدباء العرب، عضو رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين. إلى جانب الفنّ التشكيلي تكتب المقالة والقصة القصيرة، حائزة على جائزة مهرجان القلم الحرّ للإبداع العربي في مدينة الفيوم ـ مصر عن القصة القصيرة عام 2011، حائزة على عدد من الجوائز التقديرية في مسابقات عربية ودولية ومنها الرواية، حائزة على جائزة تقديرية لأجمل عمل فنّي تشكيليّ للمرتبة الأولى عام 2015.
تبدو الفنانة نهلة آسيا في أعمالها وكأنها مسكونة بالقلق والتمرّد على السكون. فهي دائمة الحركة والانتقال إن لم نقل الرحيل في المكان والوعي: المدن، البحر، السفوح، البيوت، الأبواب النوافذ، الفضاء. إنها في حركة مستمرّة لا تهدأ. ولكن، بعد التأمل الهادئ والعميق، نكتشف أنّ تلك الحركة ليست عفوية أبداً، إنما هي تعبير حيويّ جدّاً عن ذاكرة مشبّعة بالحنين والتفاصيل، مشبّعة بشجن وأمل وانتظار بين ما كان وما سيأتي، من دون أن تقطع مع الواقع. فهي بقدر ما تركض في المسافات البعيدة وتطارد المشهد العام، فإنها في اللحظة ذاتها لا تغادر زاوية الرؤية العميقة أو البؤرية إن جاز التعبير. ربما تضيق الروح حيناً فتذهب إلى المدى، لكنها تحنّ من جديد إلى تفاصيل المكان، فتبني في وعيها جسوراً بين الذاكرة الممتدة والشخصي القريب والحميم، فتنحدر من جديد من السفوح نحو المدينة أو الشارع أو البيوت والنوافذ والأبواب. هي إشكالية الذاكرة الفلسطينية التي تقودها أو تعيد تفعيلها لترى أشمل، وفي الوقت ذاته… أقرب!
تسافر في البحر، يقودها شراع نحو مدن فلسطينية تخاصر الشاطئ، ومن هناك تصعد راكضة نحو أمنياتها وأحلامها، ثم تعود فلا تجد سوى أبواب مغلقة، ونوافذ موصدة، فتشعر بنوع من انكسار عميق، وينفجر السؤال: متى نغادر هذا الانكسار المقيم؟
في هذا المستوى، يذهب الحوار عبر الأعمال من المباشر إلى غير المباشر، فتنبثق الأسئلة، وتموج الذاكرة.
في هذه الحالة، تندفع نهلة في عملية انفعالية عميقة لتعيد بناء ذاكرتها وشحذ وعيها، فتقترب من النوافذ والأبواب وكأنها تطلّ في داخلها لترى ما وراءها، أو تتخيل ذلك، فينهمر الضوء بدفء يشي بالحياة، وكأنّ البيت يحاول أن يبقي شعلة الأمل، أو كأنه يرسل أغنية أو نداءً إلى من رحلوا، أنه لا يزال ينتظر. وفي أحيان أخرى يطلّ وجه مسكون بحزن ما وعيون تحاول أن ترى، فيها بعض أمل وكثير من الأسئلة، يتجاوز الوجه النوافذ والأبواب ليصبح هو عنوان الحوار!
النوافذ في أعمال نهلة لا تحضر من دون الأبواب. لكنها بدورها أبواب مغلقة لأنها تنتظر من يفتحها من الجهة الأخرى ربما. بما يذكّرنا بقول غسان كنفاني في روايته «عائد إلى حيفا»: «فأيّ نوافذ وأيّ أبواب تلك هي التي تشغل وعي وذاكرة نهلة الفلسطينية الأردنية؟».
ندرك المعنى والدلالة لهذه المفردات المجسّدة في أعمال نهلة حين تتجلّى القدس بقبابها وأسوارها وبيوتها وانتظارها وحزنها ومقاومتها الباسلة. في هذا السياق، تأخذ مفردات الأعمال دلالاتها الحيوية العميقة والنابضة، فتصبح واضحة وساطعة. هنا مدن وأبواب ونوافذ فلسطينية تنتظر أهلها كي تعود إلى صخب حياتها العادي الأليف. وحتى يكون ذلك، فإن القدس تصعد نحو السماء.
هكذا تعيد الفنانة نهلة بريشتها وألوانها تفعيل الذاكرة والوعي والموقف الحاضن لأعمالها، حيث فلسطين المقاومة، والأم التي تنتظر ابنها كي يعود، ربما سيعود مستشهداً لا يهمّ، المهمّ أن يعود ولو حتى مستشهداً. لهذا، فهي لا تملّ من الانتظار عند قوس يفتح نحو التاريخ ويعيد إلى الذاكرة فعلها.
ضمن هذه المحدّدات الحاسمة في وعي نهلة، يمكن إدراك عملها المميّز في لوحة الصعود، حيث امرأة تصعد وكأنها تحمل على رأسها حياتها. يرفرف أمامها حبل غسيل. امرأة تمارس يومها العادي كأيّ امرأة، لكنّها لا تتوقف عن الصعود فلا يزال دربها طويلاً. تقودها السلالم نحو غيرها لتصعد نحو نافذة جديدة. يهيمن الأزرق السماوي على المشهد، بما يحيلنا إلى السماء، إلى أناس يعشقون الحرّية، يحلمون بأن يصلوا يوماً. ولهذا، فَهُم لا يتوقفون عن دفع صخرة سيزيف، يحلمون دائماً بالوصول، يحلمون بالسفوح والتلال والبحر وأشرعة تذكّرهم بجماليات العودة. تلك هي خوافي نهلة الفلسطينية الأردنية التي تحكم إيقاع أعمالها، إنها متنوّعة ولكنّها متقاطعة بكثافة شديدة التركيز. إنها تنفلت ولكن بذلك المقدار الذي يعيدها دائماً إلى أحلامها وأمنياتها، بأن تعود يوماً إلى وطن هو على مسافة ذاكرة ووعي وعين ونهر!