الروائية هالة عليان
تحت عنوان يذكّر بخماسية عبد الرحمن منيف الشهيرة «مدن الملح»، سطّرت الكاتبة الفلسطينية الأميركية هالة عليان روايتها الأولى والمدهشة «بيوت الملح» الصادرة بالإنكليزية عن داريّ نشر، أميركية وأخرى بريطانية. لكن الكاتبة تروي بطبيعة الحال حكاية عن بيوت لاجئين في الشتات الفلسطينيّ بُعيد حرب عام 1948، وتباغت القارئ عبر تقديم صورة غير معهودة لثيمة معهودة. بيوت هؤلاء الأثرياء (اللاجئين!) ليست خياماً ولا صفيحاً، بل دور مرفهة ذات حدائق وساحات جانبية وشرفات. وقاطنوها ليسوا من اللاجئين الحفاة الفقراء الذين لا يجدون كفاف يومهم، بل كانوا من الأغنياء الذين يحظون بأرصدة بنكية مريحة. وبهذا تورّط عليان القارئ في وضع لم يألفه كثيراً من قبل إذ يقلب تلك الصورة النمطيّة للجوء الفلسطيني، خصوصاً بُعيد النكبة، رأساً على عقب، لا سيما أن الإنتاج الأدبي المتاح عن اللاجئين الفلسطينيين من أبناء المخيمات غزير ومتعدد، أما ما سجل عن نظرائهم من اللاجئين الموسرين فشحيح ضامر.
لا يمكن الجزم هنا إن كانت ندرة التصوير الأدبي لتلك الشريحة مردها نظرة مرذولة ما تجاه البورجوازية الفلسطينية تستبطن اتهامها بشرذمة الجهد النضالي طمعاً في الوجاهة، أو بالتخاذل والفرار إبان حرب 1948. لكن المهم أن تلك الندرة أسهمت بعيد النكبة وما تلاها، وربما حتى اليوم، في التعبير عن فلسطين، أدباً وسياسة وفناً، في صورتها الفلاحية الرعوية وتهميشها في صورتها المدنية. وبصرف النظر عن صحة أو بطلان ما سيق من اتهامات إلى البورجوازية الفلسطينية، فإن تلك الطبقة عانت لا محالة من اندلاع الحرب واغتصاب الأرض واللجوء والشتات، حتى لو كانت صورة معاناتها مختلفة. وهنا بالضبط تكمن أهمية رواية عليان التي تتصدى للحفر والتنقيب عن طبيعة الصدمة التي تعرضت لها عائلة من هؤلاء الموسرين إثر النكبة، ثم تتبع تطور تلك الصدمة المتوارثة وأشكال تحورها ومآلاتها على مدى ثلاثة أجيال متعاقبة لنفس العائلة من اللاجئين الفلسطينيين.
أدبيات اللجوء
بأسلوب رشيق حافل بالنكتة والظرف، وصور مجازية بديعة، ولغة شعريّة بهيّة، تزجّنا عليان في سرديّة تُروى من المنظور الشخصيّ الخاص والحميمي لشخصياتها الرئيسة. «بيوت الملح» هي حكاية سلمى اليافويّة الموسرة ولجوئها مع زوجها وأولادها: وداد ومصطفى وعلياء، إلى نابلس إثر النكبة. هناك يموت الزوج وتواصل سلمى تربية الأولاد، فتتزوج وداد وترحل إلى الكويت، وتتزوج علياء من صديق أخيها الحميم عاطف وتسكن غير بعيد عن بيت أهلها. أما مصطفى فينخرط مع صديقه عاطف في العمل ضد المحتلّ على رغم تحذيرات الأهل. لكنه يقدم على ذلك في ظلّ وضع ماديّ مريح، إذ لديه وظيفة سهلة يؤديها من دون معاناة مالية في البيت الكبير الذي تتركه له أمه بعد انتقالها للعيش في عمان. أما نقطة ضعفه الكبرى التي يبوح لنا بها فهي آية الفقيرة، التي تنشأ بينها وبينه علاقة حميمية يكتم خبرها عن عائلته، ولا يعلم بأمرها سوى صديقه الحميم وزوج أخته عاطف، والذي لا يستثير سؤاله لمصطفى عن سبب إحجامه عن الزواج بها سوى: «رعب أمه من زواج ابنها بفتاة من طبقة اجتماعية دنيا وحيرة علياء من اختياره... وأن خالاته وعماته وجيرانه سوف يطلقون ألســنتهم في هذا الأمر لسنين مديدة».
بعد سقوط نابلس بيد الجيش الإسرائيلي ومقتل مصطفى إثر اعتقاله مع عاطف، تحملنا الكاتبة إلى العاصمة الكويتية، حيث تنتقل علياء وعاطف للعيش هناك بعد حرب عام 1967.
المسكوت عنه
لا يجد عاطف، الأستاذ الجامعي، من وسيلة للتخفيف عما يعانيه من صدمة نجاته وفقدان صديقه الحميم إلا بكتابة رسائل سرية له وكأنما هو حيّ يرزق، أما علياء فتعاني من الحرّ الذي لا يطاق في مدينة فُرضت عليها الحياة فيها قسراً. مقتل مصطفى ورضوخ علياء للعيش في مكان رغماً عن إرادتها، يتسببان في إصابة علاقة عاطف وعلياء الزوجية بورم المسكوت عنه بين الأزواج. ويكبر شبح هذا المسكوت عنه بينهما على مرّ السنوات التي ينجبان فيها ثلاثة أطفال. وبينما يكبر هؤلاء، ولد وبنتان، نشهد ما يطرأ على هذا الجيل الثالث من تغيرات اجتماعية وثقافية ودينية وكيف تكمن في قلب كل هذا صدمة فقدان الوطن والطرد واللجوء.
عندما كانت علياء مراهقة شابة قررت مخالفة أمها وأختها الأكبر بعدم ارتداء غطاء الرأس وظلت كذلك طيلة حياتها. لكن حين بلغت ابنتها الصغرى، سعاد، مرحلة المراهقة، لم تستطع علياء عدم انتقاد طريقتها في اللبس والهندام. فقد نشأت علياء في زمن كانت النساء فيه يرتدين التنانير القصيرة والبلوزات الضيقة ويرسمن عيونهنّ بالكحل ويزيننّ شعرهنّ بالريش وشفاههنّ بأحمر الشفاه السميك، وهو ما ظلت علياء تفضله طيلة حياتها. أما الفتيات في زمن ابنتها المراهقة فأقلعن عن هذا وصرنّ يحشرن أجسادهنّ، كما تفعل سعاد، في جينز جلديّ ضيق للغاية. ولا ترى علياء في ذلك جاذبية أو أناقة لأنه يبرز المرأة في إطار جنسي أكثر منه أنثوي رقيق. مقابل ذلك، ترتدي ابنة علياء الكبرى رهام الحجاب وتصبح ملتزمة دينياً. لكن هذا التحول لا يصيب شخصية رهام في الرواية بمثالية أو فوقية، أو يجعل منها شخصية بائسة مملة، بل تظل إنسانة يصطرع في داخلها ما يصطرع في قلوب البشر من خير وشرّ.
تسافر سعاد، ابنة عليا وعاطف، إلى باريس أولاً ثم إلى الولايات المتحدة، وتنجب ولداً وبنتاً، ولكنها في نهاية المطاف تعود إلى الشرق الأوسط، وتحديداً إلى بيروت مع ولديها. أما أخوها الوحيد فيتزوج وينجب بنتاً في أميركا. ثم تمضي بنا الرواية في آخر المشوار إلى هذا الجيل الرابع، ورحلة البحث القلق التي لا تنتهي عن الجذر الأول والوطن المفقود.
يكبر صغار العائلة ويعثرون مصادفة على رسائل عاطف، جدهم، السرية التي كان قد باح فيها بمكنونات نفسه المعذبة لصديقه وشقيق زوجته الحبيب مصطفى، وعندها يفهمون الكثير عن ذلك المسكوت الذي سكن حياة العائلة وظلل حياتهم هم أيضاً مثل مارد أسود لا يكف عن التململ في الظلام. رسائل عاطف، الأداة الروائية ربما شبه التقليدية التي اعتمدت عليها عليان، أعادت إنتاج الحلقات الخفية بين الأجيال الأربعة، وفتحت كوات بين ما قد يتبدى وكأنه جدران مصمته تفصل كل جيل عن الآخر. عبر تلك الكوات والإطلالات منها، بدا اللجوء والقسر والاغتراب والموت وكثافة حواد الماضي وكأنها لا تزال طرية وساخنة وبالغة الملوحة