عندما وصلَ إلى جبل البروس -القمة الأعلى في أوروبا-انهمرت الدموع من عينيه؛ لم يمسحها؛ فكل دمعة فَرِحةٌ بإنجازه وتبارك له بعناق حار بعد تعب ثمانية أيام من التسلق.
وصول علاء الجنيدي إلى القمة والانبهار بالمشهد البانورامي للجبال المكسوة بالثلوج التي لم يتسنَ له مشاهدتها في أيام التسلق أمرٌ يعجز عن وصفه أفصح الشعراء، أمّا رفعه لعلم فلسطين عالياً في أقاصي الأرض فيغمره بمشاعر رائعة تفتح شهيته للوصول إلى أماكن أبعد. حينها فقط يقول بعلوِّ الصوت "يا صاح! رجلٌ من فلسطين مرّ من هنا".
يخبرني "الرحالة الحكواتي" أنه بعد كل جبلٍ ينجح في اعتلائه يُولد في داخله إنسان جديد يُقدّر الحياة أكثر. هذا الشاب الخليلي تنحدر أصوله من مدينة يشتهر أهلها بطبع العناد والكتمان ما يساعدهم على النجاح، والتاريخ يؤكد ذلك بحسب قوله.
في كل رحلة؛ يزداد يقين علاء أن اللغة الوجدانية التي تجمع بين سكان الأرض وبها يمكنهم التواصل فيما بينهم هي
لغة الأخلاق والحب، التي إن مارسها المرء لن يكون هناك حاجة للكلام لأن الجميع قادرٌ على فهمها.
يحبُ الحياة ويستهويه الاكتشاف والتحدي، ويكره الاتكالية والروتين، كل ما يريده أن يبني طريقه وفق رؤيته الخاصة، وأن يعيد اكتشاف أعماقه بواسطة الترحال، وكم جميلٌ أنه عثر على "علاء" الذي يريده وبالصفات التي أوردها في بِضع جمل.
البحث عن المعارف
في حديثٍ يشبه نسيم الجبال التي يتسلقها يقول لـمراسلة "مجلة آفاق البيئة والتنمية" أن ما شده الى الترحال هو المعارف التي يكتسبها في كل مرة يسافر فيها الى بلدٍ جديد من خلال لقاء أشخاصٍ من ثقافاتٍ وعادات مختلفة، إذ تمكّن حتى اللحظة من زيارة 50 دولة؛ مؤكداً أن الجبال كانت طريقه الصحيح الذي لطالما بحثَ عنه.
ويبتسم علاء بثقة ليعطينا الخلاصة قائلاً: "بعد تجربتي في الرحلات اكتشفتُ أن لا مستحيل، وأن الصبر خلقٌ يستحق أن نبذل جهداً في سبيل اكتسابه؛ وأن الإرادة تحمل صاحبها إلى أبعد نقطة على وجه البَسيطة بمشيئة الله".
خارطة فلسطين وحكاياها
"وصلنا إلى مدينة جوكارنا الهندية في الساعة التاسعة مساءً؛ ولكن لم نصل بعد إلى الشاطئ الذي من المفترض أن نقيم فيه، مشينا مدة نصف ساعة داخل الغابة والجبال حتى وصلنا إلى موقعنا، كوخ من القصب يحتوي على سرير وشبكة لمنع دخول الحشرات فقط، هذا هو منتجعنا للنوم، استلمنا أكواخنا بعد يوم طويل وشاق لنستمتع بالنوم العميق حتى صباح اليوم الثاني، استيقظنا الساعة السادسة صباحاً في أجواء تخلو من التلوث البيئي حيث الهواء النقي وأصوات الحيوانات البرية من حولنا، هنا بدأتُ باعتماد طقوس صباحية بشُرب "ماسالا" أي شاي مع الحليب مضاف إليه أنواع من البهارات الهندية..".
هذا جزء من قصة كان علاء قد رواها، إذ يروق له أن يطلق على نفسه مسمى "رحالة حكواتي"؛ فبحسب رأيه؛ إن مهمة الرحالة أن ينقل المعلومات والخبرات سيما للجيل الجديد عبر الحكايات القريبة من القلب.
كان ينعم بوظيفةٍ مستقرة في مجال التغذية؛ ثم قرر عام 2017 تركها ليتفرغ للسفر، وبعدها لم ينفك محيطه عن وصف قراره بالمتهور، يقول علاء عن ذلك: "اتخذتُ قراري بقلبي وليس بعقلي وربما هذا أفضل ما فعلته".
ضحكة عفوية تنساب بين كلامه؛ لقد أراد أن يفعل ما يرضيه من الداخل عاملاً بمقولة باولو كويلو "لا يهم كيف يراك الآخرون؛ المهم كيف ترى نفسك". يواصل حديثه: "كلٌ يهتم بمصالحه ولست مجبراً على إتبّاع ذلك الصواب الذي يحدده من حولي وفق منظورهم".
فلسطين حاضرة دائماً
شهدت طفولته قسوة الاحتلال الإسرائيلي إبان انتفاضة الأقصى حيث نشأ في مدينته الخليل، وفي حقيقة الأمر؛ فإن أثر تلك المرحلة عليه هو واحد من أهم أسباب إصراره على المضي في رحلاته وتقديمه رسالة إنسانية عبرها، لذا فإن كل إنجاز يحققه يمنحه وقوداً للاستمرار، مضيفاً: "أتمنى أن تطأ قدمي كل فلسطين على اختلاف تضاريسها من صحراء النقب حتى الجولان".
هو الذي تتوزع إقامته بين فلسطين والأردن، تعوّد في رحلاته على التقاء أشخاصٍ تتباين معرفتهم بالقضية الفلسطينية، فهناك أناس لم يسمعوا عنها قط، في حين أنه وجد من يدركون أهمية فلسطين أكثر من أفراد قريبين منها، يحكي لنا: "أنا معنيّ بأمثال بائع جوز الهند الذي صادفته في جزيرة في سنغافورة وسط الغابة، فما أن عرف الشاب وأمه أني فلسطيني حتى شرعا بالحديث عما يعرفاه وأبديا فضولاً للتأكد من المعلومات التي بحوزتهما، برأييّ إن هذه النماذج لها تأثيرٌ أكبر ممن لديهم ثقافةٍ محدودة، حتى أن أصحابها يحدثون صدمة حلوة لي تمنحني حافزاً كبيراً لأخرج لهم بحماسٍ الخارطة من جيبي راوياً ما في جعبتي من حكايات عن فلسطين".
للراغبين في التسلق
قمة كلمنجارو وقمة البروس وجبال الهيمالايا هي المراحل الأولى في تجربته، وكلٍ جبلٍ منها له هيبته، راسماً المشهد بأسلوبه الخاص "حقاً لكل جبل ما يميزه؛ لو بدأنا بجبل كلمنجارو حيث الأجواء الأفريقية والغابات المطرية والشعب المشهور بمرحه..".
وعن جبل البروس الواقع في منطقة القوقاز الشركسية؛ يتكلم بشغفٍ واضح: "لا أظن أني أجيد وصف الطبيعة الخضراء التي تحيط بــ قمة جبل البروس من كل الجهات فيما الجبل الأبيض بارزٌ بينها، إذ يتميز عن كلمنجارو بالطبيعة الثلجية التي تكتنفها التحديات، أما جبال الهملايا فهي عَالمٌ من الحكايات، للمرة الثانية؛ كل جبلٍ له طبيعته وأطباع الناس تتفاوت من منطقة إلى أخرى ويبقى القاسم المشترك بينها الروح المُحبة والفطرة النقية".
يذكر علاء الجنيدي أن مشاق التسلق تزيد مع التدرج في الارتفاع بسبب نقص الأوكسجين، وبالتالي الأيام الأولى لا تتطلب إلا مجهوداً بسيطاً، يقصّ على مجلة "آفاق" موقفاً حدث معه أثناء مشاركته في رحلة إلى مخيم قاعدة جبل إيفرست"، كان برفقتنا مرشد الرحلة الذي سبق وأن وصل إلى قمة إيفرست ١٢ مرة؛ أخذت أحدثه عن مدى الإنهاك الذي أصابني أثناء المسير؛ فقال ضاحكاً: لا تتعجل في الحديث عن التعب أيها الشاب؛ مخيم القاعدة الذي نمر به حالياً مجرد بداية، لا تقارن بـ "مخيم ٢" الذي يرتفع نحو ٦٤٠٠ متراً؛ فيما المخيم الأول يرتفع ٥٣٦٤ متراً.
صعود إيفرست يشتمل على تعليماتٍ صارمة بحسب الشاب الفلسطيني؛ "إنه جبل خطير ويستغرق الاستعداد لصعوده تدريباتٍ طويلة وقاسية تستمر لعام حتى تؤهل المُغامر لتسلقه".. يقول علاء شارحاً أكثر: "لا بد من تسلق سابق للمرتفعات بما يفوق الـ ٧٠٠٠ متر، بالإضافة إلى رصيدٍ من الخبرة في تسلق الجليد، وتوفير ما يلزم من تجهيزات خاصة للمرتفعات والبرودة؛ فـايفرست يبلغ ارتفاعه ٨٨٤٨ متراً فوق سطح البحر وتصل درجة الحرارة فيه إلى ٤٠ درجة مئوية تحت الصفر".
كان علاء وحقيبة عَتاده على موعدٍ مع إيفرست في هذه الأيام؛ إلا أن الرحلة تأجلّت مع الأسف إلى العام القادم بسبب تداعيات فيروس كورونا؛ مضيفاً: "تجري ترتيبات تقنية عديدة، حتى الآن تجاوزت فقط مخيم القاعدة، وبإذن الله سأتجاوز مع الرفاق كافة المخيمات في 65 يومياً وصولاً إلى قمة إيفرست".
وفي العموم؛ تتيح الجبال التسلق لمختلف المستويات، لكن أدناها يستلزم لياقةٍ بدنية جيدة والأهم "أن تضع هدف الوصول نصب عينيك وأن تصدّق أنك تستطيع"، وفقاً لقوله؛ لافتاً إلى أن لكل جبلٍ موسم مناسب لتسلقه تبعاً لموقعه الجغرافي وحالة الطقس فيه".
وإجمالاً؛ من ينوي التسلق عليه مراعاة التالي "الإلمام بأساسيات التسلق ومن بينها المُعدّات والإسعافات الأولية والملابس التي يتعين استخدامها، ومعرفة تضاريس الجبل ومستوى خطورته، وأن يكون على علمٍ تام بالمسافات التي سيقطعها وعدد أيام التسلق".. والكلام لعلاء.
ويحذر بشدة من المخاطرة غير المحسوبة لأجل الوصول "الجبل باقٍ وبوسعك إعادة المحاولة مرة أخرى؛
إياكِ والذهاب بمفردك، فمن الضروري أن تكون بصحبة مرشد متمرس يعرف المكان جيداً أو على الأقل رفيق تتفاهم معه".
"ماذا عن نوعية الطعام الذي يُفضل تناوله أثناء المغامرة الجريئة؟"..اسألُ الابن البار للجبال فيجيب: "نأكل عادةً ما يأكله أهل البلد، لكل منطقة طعامها وشرابها الذي يرافقنا طوال الرحلة، كمشروب الزنجبيل والليمون في نيبال".
ولم يغفل عن التذكير بضرورة احترام تقاليد قبائل المناطق التي يتم زيارتها من دون أن يحاول الضيف فرض عاداته عليهم، موضحاً "أحرص على السؤال عن عادات أهل المنطقة قبل التوجه إليهم تجنباً لأي حرج؛ فمعرفة عادات الشعوب من أساسيات الترحال، ويحضرني هنا أهل جورجيا فمن عاداتهم تقديم النبيذ ومن العيب أن يرفضه الزائر، إن كان لا يشرب الكحول يمكنه أخذ الكأس ووضعه جانباً".
لستَ محور الكون
ثمة صعوبات لوجستية تعترض علاء الجنيدي كرحالة فلسطيني وعلى رأسها صعوبة السفر؛ موضحاً في حديثه "معظم الدول تشترط فيزا للدخول ما يتطلب بطبيعة الحال أوراقاً كثيرة، وما يثبت أن لي مصدر دخل وغيرها من التفاصيل المُكلفة؛ والأصعب أن تعود إلى محل إقامتك لأجل إصدار فيزا للوجهة الجديدة، فقد تستقلّ طائرة العودة وتقدّم للتأشيرة ثم لا تحصل عليها؛ فيذهب الجهد أدراج الرياح".
ويحاول أن يصبح ملهماً بالنسبة لكثيرٍ من الشباب الفلسطيني مشجعاً إياهم على الانضمام لمثل هذه الرحلات، كما فعل في آخر رحلة له إلى جبال الهملايا بدعمه فتاة فلسطينية تدعى ورود شرباتي؛ إذ ساعدها في تحقيق حلمها بالوصول إلى الجبال؛ "نجحت ورود بحمد الله في الوصول إلى قاعدة جبل إيفرست ووضعت قدمها على أول الطريق".
ولمحبي الرحلات في أرجاء الطبيعة الأخاذة يقدم بعض النصائح: "لا يحدد مقدار ما تنفقه مدى سعادتك في الرحلة؛ سواء ستنفق ١٠٠ دولار أو ١٠٠٠، المهم ما تتعلمه منها؛ أنصح بالاستمتاع بالمَشاهد التي قد لا تتكرر في حياتك؛ فلا تنشغل بالكاميرا على حساب الذكريات الفريدة التي ستعيشها، هناك العديد من المسارات الجبلية في العديد من الدول التي يمكن المشي فيها أو التزلج أو حتى التسلق، جبال كلمنجارو على سبيل المثال سهلة نسبياً مقارنة بالقمم الأخرى وإن كانت تتطلب تدريباً مسبقاً؛ ربّاه.. ما أعظمها من تجربة".
وبحسب علاء؛ فإن من يريد البقاء في منطقة الراحة بإقامته في المنتجعات القريبة من الجبال سيسعد حتماً بالفراش الوثير والطعام الفاخر والدفء، لكنه في المقابل لن يتذوق طعم المغامرة التي خَبرِها من يقيمون في الخيام التي تعاش فيها التجربة الساحرة متأقلمين مع كل الأجواء.
وإن كنتم تتساءلون عن دروس الحياة التي يرغب في الامتلاء بها من ارتقاء الجبال والترحال، ها هو الجواب الشافي "لقد استحقت هذه الدروس كل التعب، وأنا أطوف في أرض الله الواسعة تعلمت احترام الاختلاف بين البشر وتقبل الآخرين؛ وأن العالم أكبر مما نتخيل ليتذكر أي إنسان - مهما كان-أنه ليس محور الكون، أما الإصرار على بلوغ الهدف والطموح والصبر دروسٌ لا يتسع لشرحها حديثٌ صحفي".
"أصبح موضوع السفر والمغامرات أشبه بموضة عند بعض الشباب العربي..ما رأيك؟"؛ يفكر لبرهة ثم يبين وجهة نظره: "مؤخرًا بدأ العرب بالاهتمام بالأمر، وشخصيًا أرفض أن يغدو السفر مجرد ترف؛ كل همّ صاحبه أن ينشر فيديوهات أو صور على مواقع التواصل الاجتماعي، إن الترحال الحقيقي يُعلّم الإنسان ويضيف إليه الكثير بعيداً عن اللهو، لذا أسعى جاهداً إلى الابتعاد عن "السوشيال ميديا"؛ متمنياً الوصول إلى مرحلة الاستعاضة عنها بالطرق التقليدية مثل القصص والكتب".
وفي السياق نفسه يثّمن محاولات بعض الشباب لاسكتشاف مناطق جديدة في فلسطين عن طريق رحلات المسارات، مؤكداً أن لديه مشاريع مستقبلية بشأن التجوال في فلسطين يمكن أن يفصح عنها لاحقاً؛ فيما سيجوب أكبر عددٍ من الدول بغية التعرف إلى ثقافات وحضاراتٍ وشعوبٍ جديدة.
ماذا عن الأسرة المستقرة؛ تُرى هل قد تحد من مطامح علاء في حياة مفعمة بالمجازفة، كان صريحاً عندما قال "نعم من الممكن أن تحدّ، لكن يراودني التفكير في بناء عائلةٍ رحالة.. آمل أن أنجح في ذلك".
ويختم كلامه بشعورٍ جارف يمتزج بخلجات روحه في كل رحلة: "سيأتي يومٌ وينعم العالم بأسرِه بحرية التنقل دون أدنى قيود أو أي تحكم من القوى العظمى، ليكن قريباً ذلك اليوم يا الله!".
وصول علاء الجنيدي إلى القمة والانبهار بالمشهد البانورامي للجبال المكسوة بالثلوج التي لم يتسنَ له مشاهدتها في أيام التسلق أمرٌ يعجز عن وصفه أفصح الشعراء، أمّا رفعه لعلم فلسطين عالياً في أقاصي الأرض فيغمره بمشاعر رائعة تفتح شهيته للوصول إلى أماكن أبعد. حينها فقط يقول بعلوِّ الصوت "يا صاح! رجلٌ من فلسطين مرّ من هنا".
يخبرنا "الرحالة الحكواتي" أنه بعد كل جبلٍ ينجح في اعتلائه يُولد في داخله إنسان جديد يُقدّر الحياة أكثر. هذا الشاب الخليلي تنحدر أصوله من مدينة يشتهر أهلها بطبع العناد والكتمان ما يساعدهم على النجاح، والتاريخ يؤكد ذلك بحسب قوله.
وطن- حوار: هديل عوني عطاالله