قبل بضعة أعوام، سجّلت في فصل جامعي لدراسة "العلاج النفسي الوجودي"، كان عنوان المبحث وحده جذاباً بما يكفي. مزج بين التحليل النفسي والفلسفة الوجودية، فرويد بعيون كيركيغارد الذي يسبقه، ونظريته مقلوبة على رأسها، حيث للموت اليد الطولى والحياة عرض جانبي له. كانت لائحة القراءات الأساسية للفصل الدراسي تحوي عدداً كبيراً من المراجع العامة والكتب الأكثر تخصصاً، لكن المُحاضِرة الإنكليزية المسؤولة، نصحت الطلاب باقتناء واحد من هذه الكتب، وليس مجرد الاطلاع عليه. وقبل بداية الدراسة، توجهت لشرائه، لكن نظرة على الغلاف الخلفي للكتاب الصغير، جعلتني أتردد..
كان كتاب "الإنسان يبحث عن معنى" لفيكتور فرانكل، عن "الهولوكوست"، ولم يكن لدي استعداد لقراءة المزيد عن المعاناة في معسكرات النازية، لا لفظاعة التفاصيل فقط، بل لفرط التشبع من القراءات والمشاهدات بخصوص الموضوع.
ورغم ترددي المبدئي، أضحى كتاب فرانكل من أكثر الكتب تأثيراً فيّ، لا لأنه يصل إلى "المعنى"، بل لأنه يقرّ بالعجز عن الوصول إليه، ومع هذا يجد مبرراً للحياة ودافعاً للبقاء، في أقسى الظروف ترويعاً. وكان ذلك كله مؤطراً من داخل المحرقة وفي سياقها.
في النصف الثاني من القرن العشرين، أضحى الهولوكوست، وعبر سلسلة طويلة من الكتابات الأدبية والفلسفية، والأفلام السينمائية وغيرها من المنتجات الثقافية، هو حجر الزاوية في فهم كل شيء وللتنظير بشأن أي شيء. بالنسبة لأدورنو، التاريخ يتحدد بما قبل "أوشفيتز" وما بعده، ولدى حنة أرندت في "تفاهة الشر" نفهم البيروقراطية والدولة والشمولية من داخل معسكرات الإبادة، من إيلي فيزيل الحاصل على نوبل في الأدب، وكتابات مدرسة فرانكفورت، مروراً باليوميات الطفولية لآن فرانك، إلى "أهذا هو الإنسان؟" لبريمو ليفي، وللعلاج بالمعنى عند فيكتور فرانكل، والكلاسيكيات السينمائية "عازف البيانو" و"قائمة شندلر" والقارئ"، تتشبع اللغات الأوروبية الرئيسية والترجمات إلى سواها من اللغات، وفروع الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، بمرجعية الهولوكوست. تؤطر المحرقة اليهودية بوصفها المأساة، بـ"ال" التعريف، مأساتنا جميعاً وذنبنا جميعاً أيضاً. بصورة أو بأخرى، كلنا ناجٍ من أوشفيتز، ومشارك فيها أيضاً.
نعرف اليوم بوضوح أن تلك المرجعية، لم تحدث عرَضاً، أو على الأقل لم تُترك هكذا من دون توظيف لاحق. فالتعاطف والشعور العام بالذنب والذكرى، جميعها تخضع لآليات الفرز والتراتبية، مآسٍ بعينها تمتعت باعتراف لم ينله سواها. محرقة تبرر محرقة، وتعاطف مفرط تجاه ضحية الماضي يؤسس لقمع ضحايا جدد وتبلّد كامل تجاه معاناتهم، وإلى جانب هذا كله كان غياب مأساة الفلسطينيين عن الأدب والفن العالميين، ركناً أساسياً في سياسات استلابهم، وإنكار حقوقهم، بل وجودهم بالأساس.
مطلع الشهر الماضي، احتفت الأوساط الأدبية البريطانية والأميركية، بصدور رواية "الباريسي" لإيزابيلا حماد، المولودة في لندن لأمّ إيرلندية وأب فلسطيني. نالت الرواية التي تدور أحداثها خلال واحدة من أكثر الفترات اضطراباً وحسماً في تاريخ المأساة الفلسطينية، مديحاً استثنائياً. جريدة "الغارديان" البريطانية ضمتها إلى لائحة أفضل الروايات الأولى لكتّابها للعام 2019. وأشارت إليها الروائية البريطانية الشهيرة، زادي سميث، بالقول إنها "تجربة قراءة في غاية السمو". وكذلك وصفتها "نيويورك تايمز" بأنها تقدم "طريقة بديلة لاستكشاف التاريخ". تتفرد رواية حماد الصادرة بالإنكليزية، بأنها لا تركز على النكبة أو ما بعدها، مثل معظم الأعمال الروائية التي تتناول التاريخ الفلسطيني. بل تبدأ "الباريسي" مع اندلاع الحرب الأولى وتنتهي في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، راسمةً صورة لعالم يترنح بشدة، قبل أن ينهار تماماً. ويقدم لنا بطل الراوية "مدحت كمال"، الشاب الحالم الذي يغادر نابلس إلى مونبيليه الفرنسية لدراسة الطب، صورة قريبة وشخصية جداً لتاريخ المأساة، بتفاصيل قصص غرامه وحيرته ومصيره، صورة يمكن للقارئ أن يتوحد معها من منطلقات حميمة وفردية وإنسانية، لا بدوافع سياسية تتعلق بخلفياتها التاريخية فقط.
تنضم حماد، إلى سلسلة من الكاتبات الفلسطينيات المعاصرات، اللواتي يكتبن بالإنكليزية عن تجربة الشتات الفلسطيني في الماضي والحاضر، مثل هالة عليان وراندا جرار وسلمى الدباغ وسوزان أبو الهوى. وتأتي فرادة ما تقدمه حماد مع رفيقاتها، في أن أعمالهن ليست مما كان سيطلق عليه إدوارد سعيد "أدباً عربياً مكتوباً بالإنكليزية"، بل هي بالفعل أدب إنكليزي، في كل شيء من التقنية واللغة إلى الجماليات والحساسية. وليس هذا بفارق هيّن، بل إزاحة للموضوع الفلسطيني من نطاق الهامش إلى حيز المتروبول نفسه، ورفعه من نطاق المحدد إلى مرتبة "الإنساني".
"الباريسي"، وغيرها من الأعمال الأدبية للأجيال المتأخرة من الشتات الفلسطيني، لا تُنافس على أولوية المظلومية، أو حق التمثيل الحصري للمأساة. لكنها تسعى، على الأقل، إلى اعتراف بالوجود، بأن تكون لمأساة شعبهم نصيب في مرجعية الألم والتعاطف في وعى العالم وآدابه.