تتأمل قدسية المكان من حولها، تأسرها القبة الذهبية التي تلامس السماء، تأخذها حيث معراج النبي المصطفى عليه السلام، تجول ببصرها وكأنها بعينها تحتضن كل ذاك الجمال، تتأمل المصلين الذين يرفعون أكُفهم مبتهلين إلى الله بالدعاء، تراقب المرابطات وهن يكبّرن بأعلى صوت، تُبهجها ملامح الأطفال الراكضين في الساحات، وتأسرها صورة النسوة والكهلة، ومختلف المارين القادمين لمسرى الرسول العدنان.
ولكن في لحظة ما، وعلى حين غفلة، تبدد كل ذاك البهاء، ليغطي عليه صورة محتل مدجج بالسلاح، يبحث عنها في كل ركن هنا وهناك، إلى أن يصوّب عليها البندقية، هيئة الجنود بالزي الأخضر أعطتها شعورًا بأنه لا مفر هذه المرة، لديهم أمر بالقتل، تتصاعد أنفاسها شيئًا فشيئًا، تحاول استدراك الأمر، تغمض عينيها، ترتجف الأرض من تحتها حتى تسمعهم يأمرون بعضهم بأن "اقتادوها للاعتقال".
| حكايات الرباط
المرابطة مدلين عيسى، مديرة قوافل الأقصى لشد الرحال، من بلدة كفر قاسم من الداخل المحتل، لم يمنعها طول المسافة بين بلدتها والقدس من الرباط بشكل يومي، كانت مبعدة مؤخرًا عن القدس لفترة طويلة، وعادت أخيرًا من جديد تشتم رائحة الكعك المقدسي، تقول: "منذ بداية رباطي بالقدس اعتُقلت كثيرًا وأُبعدت كثيرًا، لا أعد المدة ولا أحسبها، في أول يوم رباط اقتحم عضو الكنيست الإسرائيلي المسجد الأقصى، وكان هناك مرابطات بالمئات، جميعهن يغطين وجوههن ما عدا أنا، كنت أراقب المشهد من بعيد، وإذ فجأة بشرطة الاحتلال تقف أمامي ليعتقلوني، فجئن كل المرابطات لحمايتي، غطين وجهي ووضعنني في نصفهن، وهربت بعيدًا ولم يستطع الجنود العثور علي".
"بدأت بعدها باستيعاب كل الأمور التي تحدث في القدس، علمت معنى الرباط على أصوله، كنت طفلة ما زلت أتعلم ما الذي يحدث حولي، ولكن كبرت وفهمت كل المصطلحات، عرفت كيف أجيب على كل الأسئلة، بحثت عبر جوجل ماذا يعني الاقتحام للأقصى، ومعنى مستوطن، وعرفت جيدًا معنى أن تعتقل في منتصف الليل من منزلك، وأن ينكل بك في مراكز التحقيق"، تضيف مدلين.
الرباط في نظر سيدات القدس المرابطات، هو التشديد على أحقيتهن في الأرض، يجلسن يوميًا تحت الشجرة القريبة من المسجد المرواني، ليناقشن انتهاكات الاحتلال ويعبرن عن امتعاضهن من تصرفاته الاستفزازية، بعد صلاة الظهر يجتمعن في باحات المسجد ويقرأن الورد الجماعي، وتبدأ طقوسهن المعهودة لتعلم التجويد والفقه والذي يطلقن عليها "مصاطب العلم" في الأقصى. في رسالة منهن مرئية أننا أصحاب الحق في الأرض.
يبرز للرباط معنى سياسي، خصوصًا إذا كنا نضعه في سياق الحيز المكاني وهو المدينة "المقدسة". فلم يطلق المقدسيون ومن يتواجد في المسجد الأقصى على أنفسهم مسمى المرابطين/ المرابطات، بل إن الاحتلال الإسرائيلي هو من أطلق عليهن هذا المسمى، كما أطلق على "المرابطات" تحديدًا مسمى القائمة السوداء.
الإبعاد الأخير كان الأصعب بالنسبة لمدلين، فقد تم إبعادها ومنع دخولها للأقصى منذ تموز/يوليو 2019 وحتى 3 كانون الأول/ديسمبر من العام الحالي، وحين دخلت من جديد بعد ما يقارب عام نصفه إبعاد كامل والنصف الثاني زارت القدس لساعات، لم تستطع التعبير عن فرحتها المرتبكة، خوفًا من الاحتلال أن يتخذ قرار إبعادها من جديد، ذهبت برفقة أولاد أخيها لأول مرة بعد هذا الانقطاع الطويل، تناولوا الكعك المقدسي، وجلسوا يراقبون الحمام الطائر في سماء الأقصى، ويستقبلون التهاني بعودة المرابطة.
| الاعتقال الأخطر
اعتقالاتها عديدة، ولكن أخطر اعتقال كاد يودي بحياتها كان عام 2017 في معركة البوابات الإلكترونية التي وضعها الاحتلال في ساحات المسجد الأقصى لتفتيش المصلين، تقول مدلين: "اتهمني الاحتلال بأنني داعمة لعملية، هجم عليّ الجنود في منظر مرعب أغمضت عيني حينها وشعرت بأني روحي تحلق في السماء، شكل الجنود بالزي الأخضر أوحى إليً أن هؤلاء معهم أمر بالقتل، ولكني نجوت منهم بأعجوبة، وتم اعتقالي بعدها وأبعدت عن الأقصى".
حُرمت مدلين من الاحتفال بالنصر مع المرابطات بعد نصرهم المظفر على الاحتلال وإزالة البوابات الإلكترونية في 2017 نظرًا لإبعادها، حتى خلال عملية إبعادها في كل مرة لا تسلم من المطاردة من المخابرات الإسرائيلية. تذكر حادثة حدثت لها مع جنود الاحتلال في منزلها حيث جاؤوا لاعتقالها ولكنها لم تكن متواجدة في البيت، تقول: "أخي قال لهم ما عنا بنات تطلع بالسيارات مع الشرطة، وحين ذهبت للتحقيق في القدس قال لي الضابط باستفزاز ’فش عندكم بنات تطلع بالسيارات آه، رح تشوفي كيف رح أجرك جر زي صحباتك المقدسيات الساعة 3 بالليل‘. لم أتمالك نفسي وقتها، لم تزعجني الإهانة بقدر ما انقهرت حين ذكر صديقاتي المرابطات وأساء لهن، رددت عليه ’إحنا ما بننذل‘".
في كل اعتقال تبعد عن القدس لفترة؛ في عام 2019 تم اعتقالها مع أولاد أخيها الثلاثة وأكبرهم عمره 5 سنوات، لم تتخيل أن يعترض الجنود طريقها وبرفقتها الأطفال، ويعتقلهم جميعًا، هذا الاعتقال سيظل تاركًا أثرًا في قلب المرابطة مدلين لنهاية حياتها، فعلت أشياء لم تفعلها من قبل، أصبحت رسامة والقيود في يديها وقدمها، رسمت سبونج بوب لهم، برعت في خوض دور العمة والأم سويًا، حقيبتها المليئة بالشوكولاتة والعصير، أفرغتها وهي مكلبشة وأطعمت الصغار، تقول: "لم أعلم ماذا أفعل معهم حتى لا يخافوا نفخت البلالين، ونحن معتقلين، وحين فتشوني الأولاد تعلقوا بملابسي، ولكن لكي أهون عليهم الموقف ولا يخافوا، أصبحت أضحك لهم، وطوال الطريق ونحن في العربة ألعب معهم وأقول لهم أننا ذاهبون لرحلة".
أما عن اعتقال الاحتلال الإسرائيلي لها في عام 2015، انقلبت كفر قاسم رأسًا على عقب، تحرك أهل البلدة وأهالي البلاد المجاورة أيضًا جميعهم للتنديد باعتقال مدلين، وقبلها كان مقررًا تمديد اعتقالها، ولكن مع التحرك الشعبي والإعلان عن مظاهرة شعبية في كفر قاسم تراجع الاحتلال عن قراره، وأطلق سراحها، تفاجأت المرابطة بالقرار، وعلمت بعد خروجها بالانقلاب الذي حدث، واشترطوا عليها وقف التظاهرة المقرر لها، ولكنها أقيمت بحضورها، وحينها نالت لقب عزيزة الأقصى من الشيخ حماد أبو دعابس رئيس الحركة الإسلامية بالداخل الفلسطيني.
ما هو الاعتقال الأصعب الذي تعرضت له؟ تجيب مدلين: "في مرة أعطوني أمرًا بإزالة الحجاب، وقتها، اهتز قلبي، بكيت من قلبي وخفت، وظللت أدعي الله، رفضت أن أخلع حجابي بقوة والضابط الموجود مُصر، جاء شرطي آخر وطلب منه أن يتركني، وبالفعل غادروا وتركوني، ونمت وأنا أرتديه وأمسك به بيدي بقوة".
| قوافل الأقصى
تضيف مدلين، "في بداية رباطي جيش الاحتلال أصبح يهدد أصحاب الباصات التي تأخذ الناس على الأقصى، وفعليًا توقفوا تحت التهديد، وانقطعت عن الذهاب إلى هناك، ثم خطرت لي فكرة أن أنظم باصات على حسابي الشخصي، وبالفعل، بدأت بباص صغير كان معي عدد قليل جدًا بسبب قلة وعي الناس بضرورة الرباط في القدس".
عكفت على المداومة على تنظيم حافلات لزيارة القدس من كفر قاسم والبلدان المجاورة لها، في بدايتها بدأت بثلاث بلدان على حسابها الشخصي، ثم توسعت لتصبح 30 بلدة تحت إشراف الحركة الإسلامية، وسُميت الحملة قوافل الأقصى.
تضيف، "نظمت حوالي 4000 حافلة خلال عام 2019، بعد أن كان العدد 400 حافلة في عام 2015، تم دعمي من جمعية الأقصى، وتعلمت أنه لكي نحمي الأقصى يجب أن نحمي ما حوله أي أهل القدس، فمن المهم أن نربط أهل الداخل بأهل القدس، وندعم صمودهم واقتصادهم، عن طريق الشراء من أسواقهم".
وعن علاقتها بالمرابطات المقدسيات، تضيف: "أنا من الداخل الفلسطيني وكل المرابطات من القدس، لم أكن أعرفهن سابقًا، تعرفت عليهن بعد مداومتي على الرباط، ودومًا ما أقول لأمي أنا لدي عائلة ثانية في القدس، أشعر نفسي وكأني في فندق من الدلال والحب الذي أراه منهم".
بنفسج: https://bnfsj.net/p/549