الكاتب/ خالد عيسى
فتحت عيوني على أبي عرب ابن ستي عائشة القابلة التي ولدت على يديها في مخيم العائدين في حمص، وما زلت إلى اليوم أتذكر حقيبتها المميزة التي كانت تحملها عند أول حالة ولادة في المخيم .. ومن خلال هذه الحقيبة وُلد جيل من اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، وعشت بعدها بين وطن محمود درويش الذي هو ليس حقيبة ولن أسافر، وحقيبة ستي عائشة والدة أبو عرب التي يولد منها لاجئون.
مات أبو عرب في مخيم العائدين الذين لم يعودوا، ودُفن غريباً في حمص بعيداً عن توتة الدار التي أقسم أن يعود إليها مهما طول المشوار ! ولأن المشوار طال أكثر مما يجب، والعمر لا ينتظر مفاوضات لا تفضي إلى شيء .. سلّم أبو عرب روحه إلى خالقها واستراح!
حكاية أبو عرب طويلة ... عشت معظم فصولها في حمص وبيروت وحتى هنا حين زارنا منذ سنوات في السويد، ولا أعتقد أن يتسع لسردها بوست صغير في الفيس بوك.
في ذكرى رحيله اليوم .. أحاول أن لا أرثي الراحل .. لأني عادة لا أجيد الرثاء .. وربما لا أحبذه .. سأحاول بكلمات قليلة الحديث عن الفكرة التي تركها أبو عرب ورحل.
أبو عرب عاش شاهداً ومات شهيداً .. هو شهيد أباً عن ابن .. والده شهيد، وابنه شهيد (معن استشهد في جنوب لبنان) ، أبو عرب شهيد رغم أنه لم يسقط في معركة، استشهد ابو عرب حنيناً، وكل من يموت لاجئاً فهو شهيد.
أكثر من نصف قرن من الزمان .. وأبو عرب هو الوطن الشفوي لللاجئين في المخيمات، في جميع أشعاره وأناشيده صورة فلسطين كما عاشت في مخيلته حين هُجر منها وهو في السابعة عشر من عمره، حتى تشعر أنه لا يوجد عشبة من أعشاب فلسطين إلا وكانت تفوح رائحتها في قصائده بعبق الزعتر البري، ولا يوجد مدينة أو قرية في فلسطين إلا وحملها معه إلى المخيم وعرضها أمام الأجيال .. بيارة بيارة، وشجرة شجرة، وحاكورة حاكورة !
هو موال البلاد من النهر إلى البحر، وعتابا الحنين في ليل المخيم !
أبو عرب انحاز للثوار، ولم يمجّد القادة الا وهم شهداء، وهو لم يزج بنفسه ولا شعره في دكاكين الفصائل .. كان النشيد الوطني الفلسطيني .. ولهذا أحبّه أبناء فتح، وأبناء حماس ... ابن الشعبية، وابن الديمقراطية !
أبو عرب هو حق العودة الذي لم يتحقق، وهو الحلم الفلسطيني الطويل (بإغراق اسرائيل باللاجئين) من رأس الناقورة إلى رفح !
أبو عرب ... آخر شاهد على موت العرب الذي حمل اسمهم منذ أن كان في الحرس القومي في سوريا .. قبل أن يموت وهو يرى قبائل العرب تقطع رؤوس بعضها وهي تصرخ : الله أكبر
رحل خالي .. آخر أخوالي أبو عرب ... ومكانه سيبقى خالياً إلا من ذكريات عطرة بعبق الميرمية !