تحسين يقين
تذكرني أعمال الفنانة رغدة أبو زيتون في الفن التشكيلي بنجيب محفوظ في الرواية؛ بجامع الانتباه للمحيط الحقيقي الخاص بالفنان والكاتب، يغترف منه، ويعبر عنه بصدق، عبر جماليات الفن والأدب.
من ناحية أخرى، فإن أبو زيتون، الفنانة وأستاذة الفن في جامعة النجاح، تختصر الجدل في مسألة المذاهب الفنية والإنسان بمكانه وزمانه، وتعمق معنى الفن المعاصر، كفن اليوم عن اليوم، لا عما يتم تأويله عن الفن المعاصر من إشكاليات، يخيّل لأصحابها، أن الفن المعاصر يعني البعد عن الهوية والمكان، باتجاه مضامين يتم تكلفها، كما تم من قبل من تقليد فنانين عرب ومن جنسيات مختلفة، في حقبتي السبعينيات والثمانينات لاتجاهات فنية غربية أصلاً حدثت بين الحربين العالميتين وبعدهما، تتعلق بسياق الحياة هناك.
وحتى لا نطيل، لعلنا نتجول في معرض رغدة أبو زيتون "انتظار" ابنة عصيرة الشمالية شمال نابلس، المقام في متحف فلسطين في "وودبردج بولاية كونكتيكت شمال شرق نيويورك"، لنرى كيف استطاعت من التعبير عن المحلي، الذي وصل العالمية.
بداية، إن حياة أي بشر، هي حياة إبداعية، تستحق التعبير عنها، والفنانة رغدة التي درست الفن وتدرسه، قد طافت الدنيا عبر الفنانين/ات، واطلعت على المذاهب والأساليب والمضامين، لتعود إلى الذات عبر مكانها وأزمنته، أي إلى قريتها ومنطقتها. لقد عادت لرحلتها الاجتماعية النفسية بصرياً، وهي وقد اختارت المرأة إنسانة للوحات، فقد عادت لفترة من زمن خاص، سبق التحولات التي مررنا بها خلال العقدين الأخيرين، إن لم يكن أكثر. وهي وقد استدعت فترة الثمانينيات، إنما استدعتها لا للتوثيق فقط، بل لعقد مقارنات فكرية عميقة عما كناه وكانته المرأة، وهما آل له الحال اليوم، بتساؤل عميق وجودياً ووطنياً عن جدوى الرحلة، وما عشناه من انتظار تحقق الأماني.
موضوعياً، سنتحدث عن بعض المحاور التي تناولتها، وهي المرأة والأرض، المرأة والانتظار، والحب-العروس، والمرأة وتأمين العيش، ومشاعر المرأة من خلال بورتريه.
الأرض: لعل عملها العظيم فعلاً الذي أبدعته، هو شموخ المرأة، والنبات والكائن الأسطوري، الذي يأخذنا إلى ماضي المكان الحضاري.
الانتظار: ولعله ظهر بشكل لافت في لوحة المرأة الوحيدة مع عصفور الدوري (البلدي)، والنساء الثلاث المنتظرات.
أما موضوع الحب في القرية، متمثل في لوحة العروس، أو بالأحرى في انتظار العريس-العرس، فهو لا يبعد عن معنى الانتظار على أمل.
أما موضوع كفاح المرأة من أجل أسرتها، من خلال لوحة بائعة الحمام، فهو أيضاً انتظار البائعات للعودة إلى البيت.
أما مشاعر المرأة عبر المرأتين معاً في لوحة بورتريه، فهو موضوع إنساني فكري تأملي للنساء في حياتهن ودورهن. وهو موضوع العودة للنفس من دواخلها. وهو يجمع بين شعور الرثاء والشجن، كما ظهر في وجه إحداهما، وشعور القوة والإصرار على الوجود من خلال نظرات الثانية.
والانتظار هنا موضوع ومحور، وكذلك هو "تيمة" قامت الفنانة بالعزف عليها في معظم اللوحات، معطية للوحات سمة العطاء، ومن ثم تأمل النتيجة، للبحث عن دور يليق بنضال المرأة الفلسطينية.
الأسلوب:
لقد ارتقت رغدة أبو زيتون جماليا لمواضيعها، فخلق المضمون هنا شكلاً مهيبا عميقاً أسر العيون، ولعل هذا الجانب هو الجانب المهم لنكتب عنه، من خلال فهمنا لرؤية المبدعة، وما تثيره من حيوية بصرية-تأملية.
نحن إزاء فنانة لا متمكنة من أدواتها الفنية فحسب، بل خلاقة لا مقلدة، منتصرة للون مكانها، ومشاعر الإنسان.
لونيا، اختارت ألوان الملابس والأزياء السائدة في منطقتها وقريتها، وليس الثوب المطرز السائد، كونها صادقة في التصوير، أنه زي نساء قرى نابلس وجنين. فكانت الأولوان حقيقية، وخلال ذلك عبرت من خلالها عن الحالات النفسية والشعورية.
يمكن هنا الحديث عن بعض الجوانب:
- وضعية الجسد والرقبة بشكل خاص.
- خلفيات اللوحات.
- الموجودات.
عبرت الفنانة عن خصوبة المرأة وأحلامها من خلال اختيار المرأة الطويلة، أما ميلان الرقبة الذي تكرر، فصار ظاهرة، بجانب الرقبة العمودية، فثمة تصالحية في البوح عن الشجن والحزن ربما، وبين الصمود والقوة. وهذا هو الواقع، فهي لم ترسم المرأة السوبرمان، بل المرأة في حالاتها.
أما خلفية اللوحات، فاختارت من البيئة، ولكن بتوظيف فني، ما بين الأزرق والأصفر والأخضر والبنفسجي والأحمر (أقل)، وهي ألوان فلسطينية، والعبقرية لديها هي في اختيار الألوان الباردة، في حين كانت المرأة بالأحمر وغيره دلالة توهج وضوء. أكان من الوجه أو من الملابس.
وثمة تكوين لوني عبر مساحات مستطيلة، خلقت فضاءات مريحة، موسعة من المكان، بجماليات محببة.
في حين لو تأملنا موجودات اللوحات، لوجدنها بسيطة بعمق اختيار دلالياً ورمزياً، على النحو:
شقائق النعمان والأرض والكائن الأسطوري (غزال-حصان)، الدوري والنرجس، والحمام وورق التوت.
وهنا، فإن كل واحدة لها دلالات ذكية، حضارياً، ومكانياً، وشعورياً، فرمزية شقائق النعمان بجمالياتها، والحمام، وعصفور البلدي المطمئن، كأن العصفور يتضامن مع المرأة، وورق التوت ودلالات خميرة العروس التي تلصقها على باب البيت في يوم العرس، كلها عمقت المعاني في الأمل والثبات. إنه التراث الفلسطيني بجذوره الحضارية الكنعانية.
لعلنا هنا نضيف أمراً مهما من وجهة نظري، وهي العلاقة الحميمية ليس بين الفنانة ولوحاتها فقط، ولا بينها وبين النساء فقط، بل بيننا نحن وبين اللوحات ونساء اللوحات، حيث تأسر اللوحات مشاهدينها ومشاهداتها، وتخلق شعوراً إنسانياً داخل نفوسنا، خصوصاً من خلال تنفيذ رؤيتها الشعورية-الفكرية جمالياً، من خلال الخطوط الإبداعية والحركة الجسدية، خاصة في الرأس والرقبة.
استخدمت الفنانة ألوان الاأكليرك على كانفس، وكان ذلك مناسباً للمعرض شكلاً ومضموناً، من خلال حجم لوحات كبيرة.
وفي مداخلتها، ومناقشتها من قبل الدكتورة نانسي نزفت، تم الحديث عن المكان، وعمق فهمها له بل وانتمائها له وحبها. كان ذلك خلال ندوة أدارها الأستاذ فيصل صالح مؤسس ومدير متحف فلسطين الذي يستضيف أعمال الفنانة رغدة زيتون.
أهمية اللقاء، كان في إلقاء الضوء على الحياة الفلسطينية، من خلال التجليات الفنية، والتي تعكس موضوعياً وجمالياً حياة المرأة بشكل خاص. لقد كان لوعي الفنانة، وإبداعها الفني دور هام في التعامل مع عين الزائر وفكره.
وهنا تكمن أهمية متحف فلسطين، كسفير وإعلام راق، يتحدث بمنهى الجمال والعمق عن فلسطين.
الفنانة الفلسطينية رغده أبو زيتون، من قرية عصيرة الشمالية، تخرجت من جامعة النجاح، وكانت من بواكير خريجات كلية الفنون، التي تقوم بالتدريس فيها.
من المعارض التي شاركت بها الفنانة، هي معرض عن بعد من بيتك (الأردن يجمعنا)، والمعرض الالكتروني الإبداعي المتميز الأول (غزه تقاوم)، ومعرض (فلسطين قضيتي)، ومعرض (على طريق القدس) الذي أقامته مؤسسة رواسي، ومعرض (رحلة إلى الأمل) الذي أقامته جامعة ألتن باش التركيه في إسطنبول. كما شاركت في العام الماضي في معرضين افتراضيين الأول Palestine write في أميركا بالتعاون مع متحف فلسطين، والثاني في جامعة Lehigh university Art Ghalleries في بنسلفانيا.