غزة ـــ يُقدم أكرم رسالة الفلسطيني الرافض للحرب والدمار بشكل خاص به، فيعمل على تحويل أدوات البطش والقتل إلى تحفٍ فنيةٍ، وإكسسوارات للزينة، وأدوات سلامٍ ومحبة.
أكرم حسني عبد القادر الوعرة... من مخيم عايدة (51 عامًا)، خريج هندسة مدنية.
ترك أكرم الهندسة المدنية وتحول منذ 11 عامًا، إلى موهبته الفنية التي وجد ذاته وأحلامه فيها، ففتح محلًا في مخيم عايدة يجسد من خلاله التراث الفلسطيني، بكل ما فيه من دلالات وآثار وقيم، وملبوسات تشير إلى الفلسطيني وجذوره، وما حمله الفلسطينيون معهم منذ نزوح عام 1948، قبل أن يخصص جهده بعد ذلك إلى فكرة عمل وصناعة الإكسسوارات المتنوعة بطريقة غريبة.
بداية الفكرة؛ كانت بصناعة الإكسسوارات من خلال تحويل قنابل الغاز المسيل للدموع الذي يعمد الاحتلال على إطلاقه على الفلسطينيين، بشكل يومي، تلك القنابل التي تشكل مصدرًا للشر وللوجع والاختناق والموت فيحولها أكرم لتصبح شكلًا جميلًا خيرًا ومميزًا.
من قنابل غاز إلى تحف فنية
مع كثرة المواجهات التي يشهدها مخيم عايدة الذي يقطن أكرم ويعمل فيه، ومع تساقط قنابل الغاز بشكل كبير، يوميًا، أمام باب محله، والتي تخنقه وتجعله يلجأ إلى إغلاق محله على نفسه كثيرًا؛ لحمايته من دخان القنابل الضارة جدًا على الجهاز التنفسي، والتي تؤدي إلى حالات اختناق، وقد تؤدي بعض أنواعها إلى الموت أو إصابات مزمنة على أقل تقدير.
بدأت فكرة أكرم من هذا الشكل القاتل والمضر، يقول "الفكرة جاءت من خلال كثرة المواجهات التي شهدها المخيم، كان الجيش يُلقي القنابل على الشباب فتسقط أمام باب المحل، فكانت الفكرة أن أحوّل هذه القنابل التي كانت تخنقني وتتسبب بنزول دموعي، وإغلاقي لمحلي إلى شيء مفيد وجميل".
وإن أكثر الذين يقصدون محل أكرم هم من الزوار والسائحين الأجانب الذين يحبون الاحتفاظ بمثل هذه القطع الفنية، والإكسسوارات اليدوية المميزة التي تعبر عن الأماكن التي يقصدونها، وأكرم سعيد بذلك فرسالته الأساسية التي يريد توصيلها هي "أن ينقل السائحين هذه الرسالة إلى بلادهم، كيف تمكن الفلسطينيون من تحويل أداة القتل الضارة إلى أداة مفيدة، أداة محبة وسلام".
لقد اختار أكرم قنابل الغاز بعناية، فهي أنواع عديدة، أكثرها من الصعب تنظيفه والتحكم به؛ لكنه اختار نوعًا منها يمكن تنظيفه وتفريغه من المواد الضارة التي يحتويها، ثم التعامل معها من جديد، وإعادة إنتاجها بشكل فني جمالي، يخرجها من دائرة شكلها الأولي، فلا تستطيع التعرف عليها أبدًا؛ بل تصبع قطعة فنية يدوية جميلة، تُباع بمبالغ مالية جيدة.
يعد مخيم عايدة من أكثر مناطق الضفة الغربية عرضة للمواجهات بشكل يومي، وتشهد حتى جنائز دفن الشهداء الكثير من المواجهات، ويطلق خلالها جيش الاحتلال الكثير من قنابل الغاز، ويحرص أكرم عند حضور الجنائز أن يحتفظ بظرف في جيب بنطاله، يخرجه متى حصلت مواجهات، فيجمع بقايا قنابل الغاز التي يريدها.
لقد وصل الأمر إلى أن أصدقاءً وحتى سياحًا وأجانب، يجمعون بقايا قنابل الغاز التي تُلقى في المواجهات في المناطق والمدن الأخرى في الضفة الغربية كالخليل، ويأتون بها إلى أكرم ليحولها إلى تحف فنية.
أما أولاد أكرم الأربعة فاعتادوا مساعدته في عمله هذا الذي يحتاج إلى جمع قنابل الغاز بداية، واختيار الأفضل منها الذي يستطيع تحويله إلى شكل جمالي، قبل أن يبدأ بعمليات تنظيف هذه القنابل، ويؤكد ابنه أنه يستمتع بجمعها لوالده، يقول "أنا سعيد بما يقدمه أبي من تحف فنية، وتوصيل رسالة للعالم بأننا نريد الحياة والسلام، ونكره الموت والقتل" وهذه رسالة أبيه التي يحرص على توصيلها من خلال فنه.
إن العمل الذي يقوم به أكرم ليس سهلًا على الإطلاق، ويؤذيه على مستوى صحي، فهذه القنابل تحتوي على مواد كيميائية وسموم كثيرة، كما أنها تأخذ منه جهدًا كبيرًا في تنظيفها جيدًا، وصعبة في التعامل معها للكتابة أو الرسم عليها، أو جعلها مناسبة لأغراضه المختلفة التي يتفنن في تنويعها ليدهش السياح بما يقدمه؛ لكنه يتحمل ذلك لأنه يريد تقديم فنٍ مميز، وأن يكون حرفيًا جيدًا، ويصل برسالته إلى العالم أجمع كما يقول.
وقنبلة الغاز هذه تحتاج إلى أكثر من عملية يدويةٍ شاقة حتى تصل إلى مرحلة إنتاجها فعليا، إذ يتم قصها أولًا، ثم قطعها إلى قطع صغيرة، ومن أجل قطعة النحاس اللاصقة في قنبلة الغاز من الأسفل يحتاج إلى عملية تأهيل لها بفكرة مميزة، ثم بعد ذلك يتم الاستفادة منها في صناعة السلاسل والأساور والإكسسوارات المختلفة، ثم يقوم ببردختها وتنظيفها وتسهيل سطحها وتبسيطه قبل دهنها أو تلوينها وصبغها والرسم أو الكتابة عليها.
إن أكرم يتحمل كل هذا التعب والعبء ليس من أجل النقود التي تعود عليه من صناعتها، أو من أجل الشهرة لا أكثر؛ بل هو يسعى إلى غاية وهدف واحد كما أكد مرارًا أثناء حديثهtrt عربي، وهو هدف سامٍ، يتمنى أن يصل إلى العالم العربي والعالمي، فهو فلسطيني يعيش في قتل وحصار، وتعرض حياته بشكل يومي للتنكيل والموت؛ لكنه يتحدى العالم، ويتمسك بالحياة وبالفرح، فيحول أدوات القتل والموت إلى أدوات فنية، ولوحات ورسوم مميزة؛ لتكون أدوات سلام ومحبة وعيش كريم.
وعلى الرغم من مساعدة أبنائه له في جمع قنابل الغاز الفارغة لكنه يرفض تعليم أبنائه هذه الصناعة، فهو عمل صعب كما يؤكد، وخطير على الصحة، فهو يضطر إلى نقع هذه القنابل في مواد التنظيف والكلور لعشرة أيام قبل تنظيفها بورق الزجاج والفراشي المختلفة ثم استخدامها في فنه، ويستخدم خلال هذه العمليات أدوات حماية ووقاية خاصة.
أكرم يخاف على أبنائه من البودرة السامة الموجودة داخل القنابل، والروائح التي تعلق فيها، وهو يدرك خطورة هذه المواد، لذلك هو يرفض تعليم أبنائه هذه الصناعة المرهقة، والخطيرة على الصحة، وهو لا يريد لهم مثل هذه المتعبة، هو يرضى ذلك لنفسه، ويستمتع بذلك كثيرًا، ولا يترك محله ومنجرته هذه إلا لأوقات قليلة من أجل تناول الطعام أو النوم مساءً، فقد بات الأمر لديه رسالة تشغله، وبات جلّ اهتمامه تحدي الاحتلال بتحويل قنابل الغاز إلى تحف فنية تتكلم حبًا وسلامًا.
يقع مخيم عايدة في المنطقة الغربية بين مدينتي بيت لحم وبيت جالا، محصورًا ما بين مستوطنتين وجدار الفصل العنصري الإسرائيلي، وقد أُنشئ هذا المخيم عام 1948، وهذا المخيم يشهد اكتظاظا شديدا بالسكان الذين يعمل غالبيتهم في بيت لحم، وبيت جالا في بعض الورش، والأعمال الحرفية، فيما ترتفع نسبة البطالة بين صفوف السكان فيه.
ويعاني المخيم، كغيره من المخيمات، العديد من المشكلات الداخلية، منها شبكة المجاري، والبطالة لدى الخريجين، وعلى مستوى الحصار والاحتلال، فإنه من بين جميع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، يعد مخيم عايدة الأكثر تضررا من العنف وعمليات التوغل الإسرائيلي، ما ينعكس على حياة الأطفال في المخيم، ويعمل الاختصاصيون النفسيون التابعون لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بشكل مستمر على التخفيف من الصدمات النفسية التي يعاني منها الأطفال هناك.
trtarabi.com