لكل مدينة عبقها ورائحتها ونكهتها، فالأمكنة كالنساء، لا يمكن أن تتشابه أبدا، والقدس لها رمزيتها، ما هي الاضافة التي أضافة لك أمكنتها لتجربتك الفنية؟
للأسف الشديد أنني لم أر القدس ولا أزقتها ولا أبوابها أبدا رغم عشقي لها بتراثها بأبوابها بعبق التاريخ المتنسم عبر أحاديث الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم وذكرياتهم التي كنت أسمعها وأحسها وأعشق تلك الجماهير العريقة التي أوصلت لنا كل هذه الأحاسيس رغم أننا لم نر القدس إلا أننا رأيناها من خلال عيونهم ومشاعرهم وذكرياتهم الجميلة الحزينة.
صدقت جدي وهو يحدثني عن تلك المباني التي عُمرت وصفت حجارتها ورفعت على اكتاف المحبين ورسمت تجربة جدي من خلال عيونه.
صدقت أبي وهو يصف لي بطولات من ضحوا على اسوار القدس ورووا بدمائهم الطاهرة ثرى القدس.
صدقت عمي وجاري والنازحين وصدقت المخيمات وطرقاتها تحدثني ليل نهار عن تلك المقدسات التي عشقت أنفاسهم وعشقوها وزرعوا فيها فلذات أكبادهم.
صدقت المقاومين والمقاومات على أرض القدس وفي محراب القدس وفي أروقة القدس وعبق الزعتر وصانع الأحلام الوردية يردد يوميا أنا هنا والقدس هنا ونحن في انتظاركم.
فرسمتها كما هي: القدس عاصمة فلسطين.
كفنان، هل اللوحات التي تناولت القدس لجأت للمدارس الفنية التقليدية؟
منذ القدم ومن أيام المستشرقين كان رسم مدينة القدس بطريقة تقليدية رسم المعالم ورسم القبة والسور والمباني ومن داخل القدس أزقتها وطرقاتها وابوابها واسواقها فقد كانت الرسومات أقرب للتوثيق منها للوحات التي تعني بمدارس الفن التشكيلية الأخرى / كانت الأعمال واقعية بحتة إلا ما ندر.
لكن حديثاً وبعد الاستعمار ومن ثم الاحتلال الصهيوني لفلسطين والمدينة المقدسة انتهج أغلب الفنانين المدرسة الواقعية في رسم المدينة وحتى الذين رسموا للمقاومة كانت القدس حاضرة في أعمالهم التعبيرية والرمزية والواقعية.
القدس حاضرة في أعمال الفنانين بصورتها الواقعية داخل العمل الفني لأن القدس كبناء لا يمكن اختزالها بأي شكل أخر حتى في الاعمال المجردة لم يستطع البعض التخلص من الشكل البنائي لمدينة القدس وتم اختزالها في كثير من الاعمال ب قبة الصخرة المشرفة.
والذي أدى لهذا الأمر هو الحالة التي تعيشها القدس تحت نير الاحتلال فكانت الواقعية للمدينة وحتى لو كان الفنان يرسمها بأي طريقة سواءً باكية أو تصرخ أو ترفع يديها إلى السماء بصور تعبيرية رمزية كانت القدس بشكلها البنائي حاضرة في كل تلك الأعمال وذلك لضرورة حضورها بهذا الشكل للدلالة على حقيقة هذا البناء الجاثم عليه العدو الصهيوني وأيضا لرمزية القدس وكونها عاصمة فلسطين بل هي عاصمة الأمة العربية.
برأيك هل تعتبر اللوحة التشكيلية اسلوب من أساليب المقاومة؟
هذا شيء أكيد، الفن المقاوم مساند للمقاومة على أرض الواقع وهو الجبهة الإعلامية لدولة المقاومين وأنا أُصر على أن اسميها دولة المقاومة لأنها هي الدولة الأساس حتى التحرير.
ولا ننسى الكثير من اصحاب الأقلام الفنية مثل ناجي العلي الذي أرهق العدو بفنه وفتح العالم على حقيقة الاحتلال وظهرت كاريكاتيراته الناقدة والمجلية لواقع الاحتلال والظلم الذي يقع على فلسطين والتخاذل الذي كانت به الأمة فكان أيقونة الفن الفلسطيني على مدى عدة عقود وما زال…
وأذكر في هذا السياق أنني رسمت رسما كان فيه تحد للكيان الصهيوني قبل ما يقارب الخمسة عشر عاماً وقد بثّته قنوات الاحتلال وتحدث عنه عدة وزراء في الكيان الغاصب ونشرته عدة صحف فقد أحدث يومها في نفوسهم رعباً وقذف الخوف في قلوبهم وهذا من المقاومة المشروعة مع العدو الغاصب فنحن سند وظهر للمقاومة وسنبقى.
الجبهة الاعلامية دائما ما تساند المقاومة وتخفف عنها أمام العالم وتفضح كذب الاحتلال وتظهر للأمة أيضا أن هناك مقاومة وأن هزيمة العدو ليست مستحيلة.
ما هي الحالة الخاصة التي شكلت عندك بالنسبة للقدس؟
قلت لك أنني لم أر القدس ولكني احفظها في ذاكرتي ببنائها وشوارعها وازقتها وابوابها ومحرابها ومآذنها بأهلها وناسها بائع الكعك وبائع الأنتيكات وصواني الطعام في باحاتها ومقلوبة القدس ستقلب نساء القدس فوق رؤوس محتليها .. القدس باتت تسري في دمي كما هي فلسطين ككل وهي أيقونة النضال وأيقونة العمل من أجل الحرية ودحر المحتل الغاصب.
رسمت لها منذ ما يقارب الأربعين عاماً وما زلت ولن أتنازل عن توأم روحي حتى التحرير أو ألقى الله وأنا على هذا العهد.
ألواني نذرتها لفلسطين ولعاصمتها القدس المحتلة وسأبقى أدافع عنها بكل خط وبكل لون وسألون سماءها يوما ما بالحرية وإني لأراها قريبة.
لم تعد القدس حالة خاصة بل هي حالة عامة لكل الشرفاء في عالمنا هذا وستبقى وقد جمعنا في يوم واحد أثناء رسم القدس في احدى الدول العربية ما يقارب الثلاثين جنسية عربية وعالمية رسمت من اجل القدس فالقدس أصبحت مشروعاً عالميا وستبقى حتى يظهر الحق وتنجلي الغمة عن عيون بقية العالم.
إن الفن التشكيلي هو أحد مرايا الأزمنة لعلاقته بالخط والرسم والنحت والحفر والعمارة، فالفن التشكيلي هو نتاج حضاري وتعبير ثقافي، هل استطاع الفن التشكيلي العربي تقديم كموروث حضاري عربي.
نعم الفن التشكيلي في وقتنا الحاضر بدأ يضع أولى بصماته على الطريق الصحيح لنشر وتعريف العالم بحضارتنا وموروثنا الثقافي وهويتنا التي كانت غائبة عن كثير من دول العالم فنحن أمة تمسكت بهذا الموروث رغم محاولات التضليل الاعلامي في العالم ودخول العدو الصهيوني على هذا الموروث ومحاولة طمسه وتزييفه في كثير من الأوقات والأماكن والتي أراها تخدم قضيتنا من حيث لا يحتسبون فقد أحيت هذه القضية في حياة الفنان العربي روح النضال والتشبث بعاداتنا وتقاليدنا واسلوب معيشتنا واظهار ذلك من خلال التمسك بالقيم والمبادئ والأخلاق وممارسة طقوسنا التي هي جزء لا يتجزأ من مقاومتنا للمحتل وقد قام الفنان العربي والفلسطيني على حد سواء بإحياء ما حاول الاحتلال طمسه من خلال أعمال تخص القضية وتخص القدس كموروث حضاري ولا أقل من وجود الكثير من العاملين في التشكيل العربي توجههم نحو اللوحة الفنية التشكيلية والتي أسميها المقدسية رغم أن الكثير من الفنانين في وقتنا الحاضر لم يرق إلى العمل الفني الخاص بالقدس إلا من خلال رسم للمسجد والقبة إلا أنها خطوة على الطريق الصحيح فالتضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني في سبيل القدس اشعلت نار المقاومة لدى المجتمع والفنان العربي والعاملين في الشأن الفني والمقاومة فكانت هناك الكثير من المعارض والمهرجانات الفنية التشكيلية والملتقيات التي تحاول بشتى الوسائل اظهار أهمية القدس وحضارتها غرس العقيدة الصحيحة وارجاع النفس بل واحياؤه في كيان الانسان العربي والفلسطيني على حد سواء.
ماذا تعني لك القدس؟
منذ ما يقارب الثلاثون عاماً وأنا أحاول عمل مشروع أو معرض فني خاص بالقدس وقد كان لي تجارب عديدة من خلال اللوحات التي كنت اطمح لأن تصل إلى مرحلة العمل الفني الخاص بالقدس ومعرض متكامل متنقل عن القدس كقضية يجوب العالم ويتصدر كل مراحل العمل النضالي بل ويدعم مقاومة الشعب الفلسطيني في الداخل وخاصة الانسان المقدسي الذي يكافح ليل نهار ويتصدى لكل هجمات المحتل على القدس ومحاولة تهويد المدينة المقدسة.
لم يحالفني الحظ لعمل هذا المعرض ولكن تحولت الفكرة من رسم معرض متنقل عن القدس إلى معرض فني متنقل دولي عن فلسطين فكان معرض فلسطين حكاية ولون الدولي والذي افتتح في الأردن في المركز الثقافي الملكي عام 2015 في ذكرى النكبة ومن ثم تنقل في تركيا مرتين وفي البوسنة والهرسك وفي كندا والسودان وفلسطين ومن ثم عاد إلى الأردن حتى وصلنا إلى المعرض العاشر. والحمد لله كانت نسبة الأعمال التي تحمل القدس عنوانا لها أكثر من ثلثي المعروض في كثير من الأحيان. تعني لي القدس كثيراً كثيراً ولهذا فما زالت حاضرة في كل أعمالي منذ 40 عاما وانا ما زلت على العهد أرسم لفلسطين وللقدس وقد كان أول معرض فني لي اواخر عام 1982 تحت عنوان صبرا وشاتيلا.
ما الدافع الذي جعلك ترسم لوحات فنية عن القدس؟
بعد كل ما سبق من الأسئلة؛ تسألني ما الدافع الذي جعلك ترسم للقدس؟
أنا ارسم القدس لأنني اعيشها حلماً اتمنى ان يتحقق وأنا أراها امامي وأن اعانق جدرانها وحماتها وأن أكحل عيناي بأزقتها وشوارعها وناسها وأن أرى الطيور تحلق بحرية في سمائها وأن أشاهد عمر وعلي ومحمد وسامي وسعيد ورامي وخالد وصلاح ووووو وكل ما ساهم في الوقوف في وجه المحتل الغاصب حتى التحرير….
أرسم القدس لأن القدس تمثلني،
وفلسطين تمثلني،
والمقاومة تمثلني،
والشهداء والأسرى وأمهاتهم الأحرار يمثلونني.
أرسم القدس لأنها مغتصبة وأطمع أن يكون لي سهم مع المجاهدين يوما ما.
القدس هي قبلتنا الأولى وهي مهد نبينا المسيح وهي عنوان عزتنا وكرامتنا، فلا تسألني مرة أخرى لماذا ارسم القدس بل قل لي لماذا لا ترسم القدس في كل أعمالك؟!
المصدر: جريدة أسرار المشاهير